الأربعاء، يناير 27، 2010

فيلم من طراز آخر

رتب اوراقه على الطاولة المستديرة و بدأ بارتشاف قهوته بهدوء و نظر الى النافذة المطلة على الشارع
تعود على ان يبدأ نهاره قبل الذهاب الى العمل في مقهى كان يعتبر منزويا و هادئا و لكن الان صار صاخبا تضج به الحياة في كل اوقات النهار . لم يحب ان يغير عاداته الصباحية بشرب فنجان قهوته على صوت فيروزي بجانب شجرة السرو الكبيرة التي تلامس باطراف اغصانها النافذة التي تجاور طاولته .
اصبحت طاولته منذ سنوات . حكرا عليه و على بدايات يوميه الروتينية .

الجو غائم و نسمة باردة تطل بالافق

رفع راسه و نظر حوله بسرعة . لاحظ ان الصبايا لم يلتزمن بعد بقوانين الطبيعة او ان موضة التعري الدارجة في العاصمة تتحدى برودة أول الشتاء . لو تعرف تلك الحسناوات كم تكون الانثى مغرية و جميلة و هي ترتدي ملابسها الشتائية ووشاح يعانقها بود

و كم تكون شهية و هي ترتعش بردا

. تغيرت كل القوانين النزارية للعشق بيد

الانثى نفسها مع انها لا توفر مناسبة الا و تلقي باللوم على الرجل .

يود احيانا ان يردد على مسامع فتاته كلمات نزار


"ما الذي أكتب عن حبك يا سيدتي؟

كل ما تذكره ذاكرتي.. أنني استيقظت من نومي صباحا.. لأرى نفسي أميرا .."

أمير لمن ؟ و قد أمضى عقدا كاملا بلا امرأة .


امرأة يدعوها الى عشاء ما و يراقصها على لحن قديم


او حتى على صوت حفيف الشجر في احد ليالي الشتاء الباردة


وتتمايل كلهب الموقدة فتشعله


اطفأ سيجارته ليشعل غيرها و عاودته نوبات الذاكرة التي يحاول استعادتها بشكل واقعي و يفشل


اتهم نفسه اكثر من مرة بقلة الوعي او بالوعي الكبير عندما تخلى عنها
لم يكن هناك سبب كافٍ و مقنع . جلس بجانبها على حافة احد الارصفة

كان يود ان يقول :

انا لا اصلح الآن زوجا . و لا حتى في المستقبل . اتعبتني الايام و لا اظنني اريد المزيد حتى لو باسم الحب . لا تتركيني لانني ساكون وحيدا بدونك اكثر . لكنني افضل الوحدة على ان اخسرك نهائيا

حجج واهية لرجل لا يود الالتزام .

تلك الجمل التي يرددها الرجال دوما عندما يودون البقاء في خانة الامان حب و عشق و اشياء اخرى لكن بدون التزام على ورقة قد تكلفهم حريتهم التي يوفرونها لاخرى ربما تاتي بعد عمر اخر و ربما لا لكنهم يحبون دوما الخوض بالمجهول و جعل ما هو واقع على لائحة اخرى لها عدة مسميات . الانتظار - الاقتناع - .... و غيرها و يحس بعدها بخيبة عندما يهجره الواقع ليقع في فخ الذكريات و يلوم الايام و يبحث عن عذر اخر يبرر فيه سقطاته العاطفية

بعدها صاغ عدة كلمات سخيفة عن الزواج و المال و المستقبل
كعنكبوت عجوز يحيك اخر بيت له على عنق شجرة و سقط متدليا
رحلت و لم تتصل به بعدها .
يشتاقها احيانا .بل غالبا ما يشتاقها خاصة عند المطر او محطة الباصات التي تعود ان يلقاها هناك كي يتمشيا الى الجامعة سويا . الآن ما عاد يحب المشي . هو تغير ايضا لكن الى ماذا ...
رشفة اخرى مرة كالفراق . من اصعب اللحظات ان تمر الذكرى امام رجل اربعيني وحيد في مقهى يقلب الجريدة اليومية و لا يقراها و . فقط يتامل . هو الشتاء ذلك الفصل الذي يجر كل الذكريات ليسحبها من البئر بعد ما دفناها بايدينا .

و دفنا ارواحا معها كل ذنبها انها احبتنا و آمنت بنا يوما ما
لفت نظره ذلك الشاب الذي يمسك بيد فتاة . اعرف تلك النهاية مررت بها من قبل . معها . ما اسخف ان تعيد مشاهدة افلام كنت يوما بطلها و تعرف نهايتها و تفاصيلها .
ستمتد الان يده على كتفها و يقول لها ما اجملك هذا الصباح لترد عليه لا اظن فمفردات اللغة اختلفت هذه الايام .
من الممكن ان يقول لها " قربي ولي " و لهذه اللغة انطباع اخر ...
اتمنى لكما الافضل و ان لا ترث كرسي الوحدة من بعدي
رفع يده لينادي النادل ليدفع فاتورته التي تضخمت يوما بعد يوم .

لم يغير طلباته منذ خمس سنوات و لكن الضرائب هي التي تتغير و تزيد و تزيد و يعرف من خلالها ان الفقراء ايضا يزيدون تناسب طردي لا اكثر و لا اقل

دخلت بكل ثقة من الباب الامامي . سحرته خطواتها السريعة و ابتسامتها . لا ما سحره هو شعرها المتموج الذي يتحرك معها و يعلن ان شيئا ما قادم من زمن اخر . انزل يده لم يعد يود الرحيل اتاه النادل طلب فنجانا اكبر من القهوة و قال في سره هذا الفيلم لم اره من قبل
جلست على طاولة مقابلة له و اتاها النادل بفنجانها .
من الواضح انها زبونة قديمة في المقهى . كيف لم يلحظها من قبل
دغدغة غريبة في حواسه و شيئ جميل لم يشعر به منذ عشرة أعوام مرت بدون ان تترك اثرا الا على يديه . تجاعيد سمراء تضايقة بين الحين و الاخر و يتعمد تجاهلها .
من هي ؟ سأل النادل و هو يثق انه سيرد عليه بحكم العِشرة .
- هذه الفتاه .انت متاكد انك لم ترها من قبل ؟

- لا

- لِم تسال ؟

- فقط لفتت نظري

- انها تاتي من فترة هنا و .... (نادته هي )
بصوت مبحوح كخريف تأهب للرحيل

خطرت بباله كل الاغنيات التي هجرها منذ زمن و صار يسمع الصمت ..
مرت لحظات و هو يراقب كل حركاتها
و سكناتها و طريقتها في شرب القهوة .
كم مميزة تلك الفتاة و غريب ان يتاخر عن عمله لأجلها
علها أتت فقط هنا لتوقف عقارب الساعة عن الهرولة و تعلمها كيف تتأنى لتترك مساحة لعاشق جديد .
لربما ساقته الاقدار اليوم فقط كي يلتقيها و تكون فصلا جديدا من ثلج و نار في حياته
و تعيد اليها لونا ما عله لن يكون
فاتحا لكنه سيكون افضل من لون الوحدة . قرر ان يتقدم ليتعرف عليها و يعطيها رقمه .
لم يعرف كيف سيتصرف ؟
سيعرفها عن نفسه .
مجرد ان يقول لها انه محامي سيفتح الف موضوع و موضوع. و ان صدته ؟
هل و هل و الف سؤال ... تاملها خلسة " شكلو دمها خفيف ؟"
انتهت من قهوتها و هرولت عقارب الساعة بسرعة كما مرت العشرة اعوام دون ان ينتبه

قرر ان يحادثها

و قبل ان يصل الى الطاولة

جلست بالقرب منها فتاة لها شكل غريب

لم تكن فتاة

احتار بامرها

و انتبه الى صوت النادل عندما قال له

- هاي من نوعية خاصة ما بتفضل الرجال كويس انك ما حكيت معها

قال في سره " عن جد فيلم ما مر علي قبل هيك "
تأكد أن زمنا آخر مر بالقرب منه و لم ينتبه له
على اي حال تاخرت عن العمل
استدار و دفع فاتورته
و رحل

هناك 8 تعليقات:

Unknown يقول...

قوية

وأظن الها معنى أعمق من المذكور

حبيتها

لبنــــــــــى يقول...

شكرا مياسي
نورت
و بعتز برايك

ميسم يقول...

جميله جفرا
وأنا كمان حبيتها:)
نحبهم نترك لهم مساحة من الحاضر والمستقبل ونقلب الماضي متسائلين عن كيفية عيشنا بدون وجودهم ونتأمل بالمستقبل الذي لايكون زاخرا الا بهم وتجد بعدها أننا ضحكنا على أنفسنا قبل كل شيء

للأمام جفرا

لبنــــــــــى يقول...

شكرا ميسم
لكن اسال نفسي احيانا هل يعبئ المستقبل بمن نحملهم ثقلا علينا و عليه
فنجعله غير كاملا و محل لوم دوما على ما حل بنا ؟
لا اظن انه يعبأ؟

أشرف محيي الدين يقول...

مرحبا jafra واسمحي لي في البداية أن أسجل إعجابي الشديد في تميز قلمك ، فعلا أسلوب رائع في السرد الروائي الذي يشد القارىء من فقرة لأخرى ويجعله متشوقا ومتعطشا لمعرفة ما سيحدث .

بصراحة وجدت في هذه القصة واسمحي لي أن أطلق عليها مقطوعة موسيقية متناغمة بجمل لحنية تعكس أفكارا في أكثر من جانب .

ففي البداية لفت انتباهي مشهد عروض أزياء التعري الذي تمارسه بعض الفتيات حتى في فصل الشتاء والذي فعلا لا أرى إلا أنه يعكس عقد نقص في محاولة لجذب الانتباه والاستعراض وحب الظهور كمحاولة لتعويض الفشل في جوانب أخرى وبالتأكيد هذا له دور كبير في ظاهرة التحرش التي لطالما تزداد في مجتمعنا .

المشهد الثاني والذي توقفت عنده هو صراع يصيب الرجل في مرحلة الشباب في حلمه الوردي بممارسة دور (الدنجوان) وكلما زاد عدد المعجبات والمفتونات به كلما زاد غرورا وزاد رفضا لأية قيود قد تكبل حريته ولكن عندما يبدأ العمر يمضي به وتبدأ أمواج المعجبات بالانحسار يبدأ بتقليب صفحات دفاتر تجاربه العاطفيه القديمة ويندب حظه العاثر على أسباب الفراق .

المشهد الثالث والذي حيرني كثيرا حول تلك الفتاة التي أعجب بها وأراد الحديث معها وهنا بصراحة استوقفتني كثيرا عبارة (( تأكد أن زمنا آخر بالقرب منه ولم ينتبه له )) وهنا فعلا أمر غريب جدا فكيف لذلك الرجل أن يبقى حبيس فترة معينة من الزمن لا يتحرر منها ليعاصر تطورات الحياة من حوله ؟ أهو الرغبة في البقاء في الماضي ؟ أم الخوف من دخول عالم المستقبل ؟

فعلا أستمتعت كثيرا بهذه القصة وألهبت في داخلي نيران أفكار كثيرة أود طرحها .

شكرا لهذا التميز وأتمنى لقلمك دوام الإبداع .

لبنــــــــــى يقول...

اشرف محي الدين
يعني بصراحة قراءتك لخربشاتي مميزة بتفصيلها
و بانتظار نيران افكارك الصديقة لقراءتها
مرورك اسعدني
تحية

Whisper يقول...

جميله جدا :)
جد حبيتها....الله يعطيكي العافيه

و كالعاده حسيت حالي شايفه تفاصيل التفاصيل :)

لبنــــــــــى يقول...

منورة ويسبر
و شكرا لاطرائك
بس سهرانة اليوم :)